وبالتحلُّقات حول مسارح صغيرة يطلُّ منها بطل ترك بصماته في الأحياء الشعبية والأزقة التي لم يكن يضيءُ عتمتها في بعض الأحيان إلا مصباح زيتي جُعل ليضفي مسحة من درامية لا تخطئها العين على وجه الأراجيز الخشبية.
ربما لم تكن صدفة أن ازدهار مسرح الدمى في ثقافتنا العربية تزامن مع حقبة دخل فيها المجتمع في مرحلة الركود الفكري والعلمي، بل حتى اسم الأراجوز يعود إلى الأقوام الغجرية ذوات الأعين السوداء (ومنه التعبير التركي قره قوز) الذين اشتهر هذا الفن على أيديهم، وقد يعود أيضاً إلى النظرة السوداء للحياة، التي كان ينظر إليها الناس عبر عيني الأراجوز وأسلوبه الفكاهي الساخر الماكر الذي يدخلهم في نوبات من الضحك والمرح.
من أعلى الربوة التركية الطافحة عنفواناً في بداياتها، سالت أودية القره قوز إلى الأقاليم، وبدأت بذلك القصة في أمصار كالعراق والشام ومصر وصولا إلى أقاصي المغرب العربي.
ونحن وإن كنا هنا نتحدث عن القرن الرابع عشر للميلاد، إلا أن قفزة زمنية إلى زمننا الحاضر تجعلنا نرى محاولات متفرقة لإحياء هذا الفن من الاندثار في زمن الإنترنت والأبعاد المتعددة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف لفن شعبي قائم على صندوق وبعض الدمى أن يستقر في الوجدان العربي كل هذه القرون؟
إن فن مسرح الدمى ليس فناً موجهاً إلى الأطفال وحدهم، بل كان فناً يتداعى إليه المجتمع بكل أطيافه المختلفة.
فعادة ما كانت حكايات القره قوز مليئة بأساليب التحايل والتلاعب والمكر، وغالباً ما كانت الحكايات تنتهي بنجاة الأراجوز الماكر بأفعاله مع الكثير من الطرف التي تتخلل أحداث الحكاية، في أجواء مضحكة وبحركات وتمايلات تزيد الموقف بهجة، وتزيد الناس تسليةً ونسياناً لهمومهم.
واليوم وبعد كل هذه المحطات التاريخية، لا يزال القره قوز حاضراً في الذهن العربي، سواء بذكرياته في عقول الأجيال التي عاصرت بدايات القرن السابق وأواسطه، أو باعتباره تاريخاً يحاول الخروج من غياهب النسيان، أو أيضاً كعنقاء يحلو لها الانسلال من رمادها لتطل علينا عبر مبادرات طموحة عادةً ما يكون أصحابها هم الورثة الباقون لهذا الفن من عائلات توارثته أباً عن جد وبقي آخر أحفادهم يحاول النفخ في لهبها المحتضر وسط رياح الإنترنت والوسائط الحديثة، ولا يبدو أن أرواح الغجر أصحاب العيون السوداء الساكنة خلف الوجوه الخشبية سترضى بالهزيمة في معركة القرون هذه.