الصحافة الثقافيّة، فنُّ الوقوف على التقاطعات

رغم التقدّم التكنولوجيّ الذي نعيشه منذ بدايات الألفيّة الجديدة، حافظت الصحافة على موطئ قدم لها وسط التطوّر غير المسبوق لوسائل الاتصال والإعلام. ولئن غابت تدريجيًّا تلك الصورة التقليديّة للشخص المثقف، الذي يحتسي قهوته وبين يديه صحف الصباح، إلا أنّ الصحافة كانت دائمًا في مأمن من طوفان التقنيات الحديثة، باعتبارها تستحوذ على الوقود الأهمّ لكلِّ مجالات الحياة: المعلومة.

لطالما لعبت الصحافة في حياة الدول والمجتمعات دورًا محوريًّا بامتياز، ولطالما كان الصحفيّون بمثابة الإلكترونات الحرّة التي تنتقل بين أطياف المجتمع وجوانب الحياة، طولًا وعرضًا، صعودًا ونزولًا، ووسط هذا الخضم، أو بالأحرى في مقدمته، كانت الصحافة الثقافيّة هناك، مرابطة على ثغور الهُويّة والحضارة والتاريخ، وكان الصحفيّ الثقافيّ مكلَّفًا ببناء الروابط بين أفراد المجتمع وهُويتهم، وبتحويل الخصائص الحضاريّة والثقافيّة من برجها العاجي لتصبح واقعًا يوميًّا تتنفسه الجماهير وتتطبع به.

يتميز الصحفيّ الثقافيّ بخصائص عدّة، جعلته متفردًا عن غيره من العاملين في الميدان، فهو يقف في منطقة وسطى بين فروع الثقافة المختلفة وتخصّصاتها، وبين الفاعلين الثقافيّين على اختلاف مواقعهم وتأثيرهم في القطاع، إنتاجًا واستهلاكًا، وبين  فئات الإعلام المختلفة والوسائل التقنية المستخدمة لتقديم هذا الإعلام، بتنوعها بين الكلاسيكيّ والحديث. إنّ الصحفيّ غير القادر على تحديد مصادر حديثة، وطرق جديدة، باستمرار؛ للوصول إلى المعلومات الثقافيّة في كلّ مكان وعلى مختلف المنصات، ليجد نفسه في طرف المشهد وليس في قلبه.

يجد صحفيّ الثقافة نفسه أيضًا أمام حتميّة التحلّي بخلفيّة موسوعيّة، وضرورة الإلمام بمختلف جوانب الفنّ والثقافة والإبداع، حتى يكون قادرًا على متابعة أخبار المعارض والمتاحف والفعاليّات، إذ من دون الغوص في معمعة الإنتاج الثقافي والإبداعيّ لا يمكن الحديث عن أرضيّة صلبة يقف عليها. لم يكتسب صحفيو الثقافة سمعتهم من فراغ، بل من قدرتهم على تطويع هذا الكمّ من المعارف الفنيّة والإنسانيّة لخدمة المتطلّبات الصحفيّة، وأداء رسالتهم الإعلاميّة.

وتأتي المهارات الأدبيّة والتحليليّة لتتوج هذه التركيبة الفريدة من نوعها. إذا فلا بدَّ للصحفيّ الثقافيّ من اكتساب القدرة على: هيكلة الأفكار، ونقدها، ومناقشتها، وتقديمها بوضوح، وبشكل يناسب الإطار والسياق، وكتابة نصوص ومعلومات ثقافيّة بأشكال مختلفة، حتى يتمكّن من إنتاج المقالات والوثائقيّات والتفاعل عبر المنابر الإعلاميّة: كالصفحات الورقيّة، وبرامج الإذاعة والتلفزيون، ومواقع الإنترنت، والبودكاست، وغيرها.

ولا تكتمل صورة الصحفيّ العامل في المجال الثقافيّ من دون خصائص شخصيّة وسلوكيّة هي في هذا السياق أدوات عمل لا تقلّ أهميّة عن الأوراق والأقلام، وليس أقلّها الفضول الذي يمكن اعتباره الوقود الضروري لتحريك الصحفيّ ودفعه في جميع الاتجاهات، وليس أقلّها أيضًا المهارات التواصليّة والاجتماعيّة، التي يحتاج إليها للتواصل الفعال مع العاملين في الميدان الثقافيّ والمؤثرين فيه،  بالإضافة إلى مهارات استشراف المستقبل والرؤية البعيدة المدى؛ لاستكشاف المواهب الصاعدة؛ وقراءة الاتجاهات المستقبليّة.

ليس من المبالغة القول بأن الصحافة الفنيّة هي بمثابة بضاعة فاخرة لا تتاح إلا لفئة قليلة من الناس، هم وحدهم القادرون على تحمّل أعبائها والاضطلاع بمسؤولياتها، وهم وحدهم المؤهّلون لحمل هذه الأمانة التاريخيّة، والوقوف سدًا منيعًا أمام: موجات التغريب، والعولمة، والتفسخ الثقافي، وطمس الهُوية.  إنّ غياب الصحافة الثقافيّة عن أيّ مجتمع يعني إصابة هذا المجتمع بمرض فقدان المناعة، وتفكك الروابط التي تشدّه إلى جذوره، وتعرية مقوماته الحضاريّة في وجه الرياح العاتيّة. وإذا كان الفضول قتل القط، كما يقول المثل الإنجليزيّ، فربّ فضول ألهم صاحبه، واستفز ملكاته؛ ليسهم في صياغة مشهد ثقافيّ استثنائيّ، ويضع لبنة إضافيّة في بناء ثقافيّ وحضاريّ يزداد تماسكًا يومًا بعد يوم.

 

المدونات المتعلقة

For better web experience, please use the website in portrait mode