مسجد إثراء .. الزُمرّدة المُغلّفة بالغيم
عند دخولك من البوابة الرئيسية لمركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء)، ستشاهد ذلك المبنى ذا المساحة الأصغر والتصميم الناصع بياضًا من الخارج، والذي سيجعلك تقفُ حائرًا على مفترق طرق في الحكم الذي ستطلقه على هذا المكان، فهو يبدو مختلفًا في التصميم عن هذه التحفة المعمارية الكبيرة المتمثلة في مبنى إثراء، لكنه متناغم معها ، كما أنك لن تجد كبيرَ عناء في تحديد هوية المبنى حتى وأنت تنظر إليه من بعيد؛ فسيتّضح لك أنه مسجد استوحيَ شكله الخارجي من شعائر الحج.
من الخارج يجذبك الشكل البسيط الهادئ المريح للعين، هذه البساطة التي يقابلك بها التصميم الخارجي للمسجد، هي ذاتها التي ستقف كثيرًا أمام روعة دلالاتها وعبقريتها لو تأملتها جيدًا، وما تخبئه من سحر ورسائل ورموز دالة في عمق المعنى، فالمملكة محجّ المسلمين، وإليها تهوى أفئدتهم وأرواحهم وأجسادهم على اختلاف ثقافاتهم وألسنتهم وألوانهم ومواقعهم الجغرافية، لذلك أراد بُناة المسجد أن تكون شعيرة الحج هي الأساس الذي يُستنبَطُ منه شكل المسجد الخارجي؛ الفكرة في التصميم الخارجي تنطلق من مسارات الحجيج المزدوجة، والتي كانت في الأصل مسارًا واحدًا قبل أن ينقسم إلى مسارين، واحد يمضي فيه الرجال وآخرٌ تعبره النساء.
أما الداخل .. فهو الغوص في التفاصيل الجميلة، فلسفة بسيطة فرضت نفسها، ولكن البساطة هنا لها جمالية تشكيلية تضج بالألوان والفن والدعوة إلى التأمل؛ العلاقة الأولى بين عينيك والمكان ستغلفها الدهشة لا شك؛ سيبهرك المحيط الأخضر الآسر للألباب، فالفسيفساء ذات اللون الشجري الصقيل تزين الجدران والسقف بشكل مبهر، يحيلك مباشرة إلى روح الزمرد الأخضر، والأخضر لون ارتضاه الله ليكون ثياب أهل نعيمه وجنته ، وكما يقدم لك هذا المسجد تهيأةً للعبادة والصلاة، فإنه يهديك لمعنى بعيد يقدم لك المبنى كجوهرة معمارية وكلوحة خضراء ساحرة.
ستكتشف أن المسجد مقسم إلى نصفين، إحدهما مخصص للرجال والآخر للنساء؛ وبين المنطقتين لجأ مصمم المسجد إلى استخدام تسعة وتسعين عمودًا فولاذيًا متراصًا ، لتشكيل المنطقة الوسطى بين المنطقتين، ولتكون حاجزًا لا يلعب دوره الطبيعي في الفصل بين الجانبين فقط ، بل يتجاوزه إلى تحقيق غاية جمالية تغريك بالنظر، وغاية رمزية إسلامية لا يخطئها المتأمل، إذ تستحضر هذه الأعمدة عدد أسماء الله الحسنى .
ارفع بصرك للأعلى، ليريك السقف تحفته الخاصة، سيستأثر ببعض وقتك لا شك، فتحفته تحتاج دقائق للتأمل؛ إنها ثريا فائقة الجمال تتدلى كأنها تريد أن تصافح المصلين، وتعلق على صدورهم نياشين الشغف قبل أن يغادروا، وأنت تنظر إلى السقف سيخيل إليك للوهلة الأولى أنك تنظر إلى السماء مباشرة بلا حائل، فالثريا المتدلية من سماء السقف تبدو لك كغيوم معلقة في الفضاء الخارجي، تنتظر دورها في الهطول مطرًا. تأمل جيدًا لتكتشف الخدعة الجمالية المثيرة؛ هذه الثريا عبارة عن تشكيل بصري من المرايا والزجاج الكريستالي الأنيق، وحدات وأسطح تتماهى مع بعضها البعض وتمتص الإضاءة الجانبية القادمة من زوايا المسجد المختلفة، ثم تعطي إضاءتها الحالمة الغيمية الخاصة التي تأخذك إلى عوالم بين الأرض والسماء. والثريا معلقة على السقف بواسطة خيوط فولاذية لا تصدأ، وهي كذلك بالكاد مرئية ومزودة في نهايتها بمشابك متينة للمزيد من إحكام تعليق الثريا.
المسجد الذي يبدأ من منطقة البلازا وترحب مئذنته بالزوار قبل أن يصلوه، هو مزيج فريد بين بساطة التصميم وبراعة الفكرة وبُعدِ المعنى وسحر المجازات والرموز المتناثرة في المكان داخليًا وخارجيًا.
الشيخ/ محمد السعوي
إمام مسجد إثراء