أبواب المركز مغلقة حتى الساعة 04:00 م
اعتادت "ديزني" في كل عام طرح مجموعة من الأعمال المصورة في صالات السينما وعلى منصتها الخاصة، مجددةً مشوارًا ذهبيًا حافلًا بدأ بشكله السينمائي، لا بالرسومات والمشاهد فحسب بل بتاريخ موسيقي تردد صداه معنا حتى يومنا هذا، فالذاكرة الموسيقية لـ"ديزني" هي بوابة كبيرة وتجربة عميقة، بدءًا بالموسيقى التصويرية الخاصة بـ"سنو وايت والأقزام السبعة" في الثلاثينيات الميلادية والتي أصبحت على إثرها الموسيقى في "أفلام ديزني" تقليدًا كلاسيكيًا راسخًا، إلى حقبٍ من الإبداع المتخيل الذي منح لأجيال طويلة فكرة عن الثقافات المختلفة في كل أصقاع العالم، والتنوع البيئي المذهل الذي تحتضنه أرضنا الكبيرة من شرقها إلى غربها، حاملةً "ديزني" بذلك عبق المدن والبلدان على سلمها الموسيقي مع 100 عام من المساهمة المستمرة لإثراء الأرشيف الموسيقي العالمي، فالعالم قبل "ديزني" شيء وبعده شيءٌ آخر كما يقال.
نوستالجيا ممتدة
من منا بإمكانه أن يتذكر عمل "مولان" دون أن تتسلل أنغام الموسيقى الصينية التقليدية إلى عقله؟
ومن باستطاعته أن يتصور فيلم الرسوم المتحركة "علاء الدين والمصباح السحري" دون الموسيقى الشرقية من وحي ألف ليلة وليلة في الفيلم المعروف؟ وكيف لنا أن نتحدث عن الفيلم الكرتوني الكلاسيكي "قطط ارستقراطية/قطط ذوات" دون استعادة صوت آلة الأكورديون المعبّر عن وجه فرنسا الجميل والهادئ؟
حتى باتت هذه المقطوعات والأغنيات لوحات بحد ذاتها، نلمسها ونتأملها، وأطباقًا على مائدة الثقافة الشعبية، نتذوقها ونستطعمها ونتلذذ بها، كوليمة شهية في كل مرة!
السفر عبر الموسيقى
امتلكت "ديزني" مع كل عقد مر عليها أسماء بارزة ساهمت في نسج موسيقاها الخالدة كـ: "تن بان" مثلاً أو "ريتشارد وروبرت شيرمان" ممن لمعوا في أعمال مثل "إنه عالم صغير" أو "كتاب الأدغال"، مانحين لفترة الستينيات نجاحًا بلا نظير أو مثيل.
ومن وحي هذه الأعمال الكثيرة والموسيقى الملهمة لـ"ديزني" يأتي "لانغ لانغ" العازف الصيني الشهير ليرسم اللوحات الموسيقية واحدةً تلو الأخرى، مرة بأنامله المدغدغة لمفاتيح البيانو، ومرة برفقة أوركسترا أكاديمية "بيتهوفن"، ومرة بصحبة عازفين ومغنيين منفردين، متنوعي الخلفيات والمهارات، في ليلة أُحييت على مسرح مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) لتكون مدينة الظهران ضمن 10 مدن اختارها العازف الشهير للسفر إليها، والمحطة الوحيدة في الشرق الأوسط لإحياء موسيقى "ديزني" فيها، مستقطبًا "لانغ لانغ" بدوره ما يقارب الـ2000 متفرجًا، لامس من خلالهم جميع الحواس، ولعب معهم على مختلف المشاعر والذكريات، في تجربة بصرية إبداعية حية، تنتقل في كل مرة من فكرة إلى أخرى ومن إحساسٍ إلى آخر، صانعًا مزيجًا متوازنًا بين الأعمال الكلاسيكية والأعمال الحديثة لـ"ديزني"، ومانحًا لكل عملٍ حقه في الأداء والتعاون الفني المثمر.
فقد تعاون "لانغ لانغ" مع العازف الصيني "غوو غان" مؤديًا مقطوعة على آلة الأرهو الصينية التقليدية، والتي تُعرف كذلك بـ"الكمان الجنوبي" المشهورة بوتريها المقوسين، مع خلفية ثرية قدِم بها، حيث حصد على لقب "فارس الفنون والآداب" عام 2015م. ثم عقب ذلك تعاونه مع الإسباني "بابلو غارسيا لوبيز" الذي اتحف الحضور بروعة أدائه الأوبرالي، والذي يمكننا تمييزه عن آلاف المغنين في عصره، مستخدمًا تقنية غناء الرأس، تاركًا الحضور في ذهول وتصفيق حار، ومنه إلى العازف البرازيلي "بلينيو فيرنانديز" الذي رقص بأصابع يديه على الغيتار كما يرقص البرازيليون على السامبا، مانحًا صبغة مميزة ومزيجًا حلوًا مع صوت الطفولة الحالم الخاص بـ"ديزني"، تلى ذلك الموهبة السعودية "لولوة الشريف" المغنية الواعدة بحضورها اللافت، حيث قدمت أسلوب الجاز الأمريكي الذي صحبنا إلى ما وراء البحار دون أن نتحرك من أماكننا، مع طاقة باعثة للألفة والمرح، وحلمٍ تحمله معها لمزج الثقافات والاحتفاء بها دومًا! ومنها إلى "جينا أليس" شريكة "لانغ لانغ" في رحلته والتي قدمها لنا لتزين هي بدورها ألحانه العذبة، مكونين بذلك لوحة مشتركة كاملة.
لوحةٌ بعد لوحة وتعاونٌ بعد تعاون، منحنا لمحة سريعة عن تاريخٍ حافل، وكأننا نشاهد شريط ذكريات أمام أعيننا ونشهد على منهجية اتخذتها "ديزني" لسنوات بمزاوجة متواصلة، استمرت عليها لعقود مع فنانين من حول العالم.
تاريخٌ وفلكلور
إن مكانة "ديزني" في وجدان الأجيال لم تأتِ بفضل المرئيات والجانب البصري المذهل وحسب، لكن لارتباط تلك الرسوم بالعديد من الذكريات الموسيقية، فهي دائمًا ما كانت مطعمة بألحان متنوعة تُحفز المخيلة لنرتبط مع كل ذلك عاطفيًا.
وبالحديث عن الارتباط العاطفي والمخيلة، فقد دأبت "ديزني" على استحثاثها مرارًا وتكرارًا، فمعظم أعمالها ما هي إلا قصص فلكلورية قديمة من رواية الجدات والناس بين بعضهم، تناقلوها جيلًا بعد جيل شفهيًا أو في كتب وحكايات مكتوبة، مثل؛ ألف ليلة وليلة فيما يخص الحكايات العربية، وتجميعات الأخوين الألمانيين "غريم" فيما يتعلق بحكايا أوروبا القديمة.
في المقابل وعلى مر عقود لعبت "ديزني" دور الراوي الإبداعي، الذي لا يتردد عن منحنا في كل مرة حكمة وإلهامًا جديدًا من خلال الأرشيف الإنساني المذهل الذي كاد أن يندثر لولا العقلية الإبداعية التي اتخذتها، فليس هناك ما هو أكثر تأثيرًا وأعمق وقعًا من رواية القصة، فكيف إن طُعمت القصة بالموسيقى والأغان التي تمنح للعمل رسوخًا أكبر ليهيمن علينا مهما كبرنا؟
يقول “والت ديزني” في حديثه عن صناعة الموسيقى: "علينا أن نمهد طريقًا جديدًا لإنتاج الموسيقى، بحيث ننسجها نسجًا مع الحكاية، لا أن نجعلها مجرد أغنية يندفع المرء معها"، ومن المدهش أن تَرِد هذه الكلمات على لسان شخصية لم تُعرف بنجاحها في عزف الآلات بقدر تمكنها وموهبتها الفذة في خلق الأفكار مع رؤية مختلفة للعالم، مما مكنها من إثبات مكانتها في الصناعة الموسيقية بحد ذاتها.
وهذا ما استطاع "لانغ لانغ" تجسيده خلال أدائه، فبلمحة سريعة على الجماهير الحاضرة ترى الكبير والصغير، والعربي وغير العربي، والسيدات والرجال، والكهول والمراهقين، معقبًا "لانغ لانغ" على ذلك بقوله: "أنا سعيد بتواجدي على مسرح إثراء الرائع، لأشارك معكم هذه الموسيقى وهذه اللحظات المميزة، وكم يدهشني رؤية التأثير الذي تحمله موسيقى وأفلام ديزني في جميع أنحاء العالم".
تمازج ثقافي
وفي خضم كل هذا، من الملفت أن تجلس بجانبك سيدة بزيٍ تقليدي صيني منسوج على طريقة ثوب النشل السعودي، مرددةً بين الحين والآخر كلمات مثل؛ شكرًا جزيلًا وعفوًا ومع السلامة، ثم تلتفت للناحية الأخرى فترى مختلف الأعراق والجنسيات التي تتحدث بين بعضها باللغة العالمية المدعوة بـ"الموسيقى"، حيث اجتمع الجميع على مائدة ثقافية كبرى استطاع مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) أن يظللها في أجواء تسودها البهجة، داخل أول مسرح أوبرالي بمقاييس عالمية في المملكة، تاركًا فرصة لمختلف المواهب والأسماء لتقديم أعمالها، ما بين عروض كعروض "برودواي" العالمية وتجسيدٍ لأشهر الروايات كـ"الأمير الصغير" واستضافة لأشهر فرق الأوركسترا مثل "إيتاليانا ديل سينما"، لنؤمن يقينًا من خلال كل هذه التجارب ونجاحها بفاعلية الفن ورسوخه في المجتمعات جميعها، فلا شيء يقرب الناس من بعضها ويجعل الحواجز تذوب وتتلاشى كما يفعل الفن وكما تفعل الثقافة، خاصةً حين تؤدى في عُرسٍ فني يحتفي بكل ما هو جميل وبكل ما هو آسر، بين مصفق ومرحب، بين عازف ومغنٍ، بين مؤدٍ ومتفرج، بين طفل وبالغ، بين مغمورٍ بالذكريات ومتذوقٍ للألحان والمقطوعات!
بقلم: ريم الرتوعي