بقلم: زهرة شكارة، إثراء

في قلب الصحراء الشاسعة، يتجلى الجمل كرمزٍ للبقاء والصمود، حيث تتسم العلاقة بين الإنسان والجمل بطابع خاص يتجاوز مجرد التعايش. فهو ليس فقط وسيلة نقل، بل هو رفيق الدرب ومصدر للأمان والراحة في بيئة قد تبدو للبعض قاسية ولا ترحم. وهذا ما يعكسه الوثائقي "حادي العيس"، من إنتاج إثراء، حيثُ يُسلّط الضوء على هذه العلاقة العميقة بين رعاة الجمال ورفاقهم من الجمال الذين يسيرون بهم عبر الصحراء المُمتدة.
 

يصف عبدالله بن عتيق الضيوفي، أحد رعاة الجمال من مدينة جدة في المملكة العربية السعودية، هذه العلاقة بقوله: "الجمل ليس مجرد حيوان، بل هو شريك في تحمل مشقات الحياة. فهو قادر على التعامل مع الحرارة الشديدة والبرودة القاسية والمسافات الطويلة. الجمل بالنسبة لنا ليس فقط وسيلة نقل، بل هو أيضاً غذاء وانتعاش. الفرق بين السفر بالجمل وبأي حيوان آخر شاسع؛ فالحصان مثلاً يتطلب رعاية خاصة، بينما الجمل هو الذي يعتني بك، كما أن أجدادنا لم يعتمدوا على الجمل في حياتهم وحسب؛ بل كان هو محور حياتهم"

كما أن الجمل قادر على بناء روابط قوية مع البشر، فهو يُكوّن علاقات وثيقة مع من يراه بانتظام ويتفاعل معه، حتى يصل إلى تكوين صداقات عميقة. يرى البدو أن الجمل يستجيب لمشاعر الإنسان؛ إذا كنت حزينًا، يشاركك حزنك،  وهذا يمنح شعورًا بالراحة والألفة في بيئة قد تكون قاسية وصعبة.

يقول إبراهيم الدحيمان، راعي جمال من القليب: “الجمل بالنسبة لي جزء من عائلتي، إذا اقتربت منه، يعانقك، وإذا استطاع أن يعانقني بشكل أفضل، لفعل، لكنه لا يستطيع. لذا، يقوم بفرك عنقه بقوة بدلاً من ذلك. إذا تأخرت وسَمِعَ صوت سيارتك، يجري إلى مكان مرتفع ليرى من أين ستأتي. حتى أنه يتعرف على رائحتك. فنحن نحبهم بقدر ما نحب أطفالنا - وأحيانًا أكثر"
وعلى الرغم من سمعة الجمل كحيوان عنيد، إلا أن العلاقة بينه وبين الإنسان تتميز بعمقها وقدرتها على تطوير روابط قوية، فالجمل، في تفاعله مع الإنسان، يظهر قدرة فائقة على فهم المشاعر البشرية والاستجابة لها. كما يقول إبراهيم الدحيمان، راعي جمال من منطقة القليب: "الجمل بالنسبة لي جزء لا يتجزأ من العائلة، فهو يعبر عن مشاعره بطرق قد تبدو غير متوقعة. عندما أقترب منه، يشعر برغبتي في التواصل ويفرك عنقه بقوة تعبيراً عن حبه."

ورغم الصعوبة التي قد يواجهها البعض في التعامل مع عناد الجمل، فإن هناك جانبًا آخر يُظهر حب الجمل للموسيقى والغناء، خاصة تلك الأصوات التي تصدر من الإنسان. لذا أصبح الغناء للجمال تقليدًا يوميًا بين رعاة الجمال، حيث تُستخدم الأغاني لتحفيز الجمل على الحركة أو الشرب.


يُعرف البدو بالغناء للجمال لتشجيعها على القيام بأنشطة معينة، يستطيع السائق الماهر، أو “الحادي”، جعل الجمل ينهض ويتحرك بسرعة أكبر أو يشرب الماء من خلال أغانيه. ومع مرور الوقت، أصبحت هذه الأغاني جزءًا من التقاليد اليومية لرعاة الجمال. وفقًا للمؤرخ ابن خلدون، كان هناك معلمون في مصر متخصصون في تعليم "الحِداء"، وهو نشيد السائق للجمل. ويصف إبراهيم هذه التجربة قائلًا: "حادي العيس هو المغني المفضل للجمل. كلمة "حادي" تعني المغني و"العيس" تعني الجمال. هو مغنٍ تحفيزي يتفاعل الجمل مع أغانيه، حيثُ كلما بدأ الجمل السير ببطء، بمجرد أن تغني له، يسرع ويقطع المسافات بوقتٍ أقصر، وبخطوات أخف كما أنه يتمكن من حمل أوزان أكبر.

 

ولأن القوافل تحتاج إلى من يغني لها لتوجيهها، فإن لكل جمل خصائصه الخاصة واسمه الخاص، يناديه السائق عندما يحين وقت الرحيل، حتى يعرف الجمل من هو القائد ومن يتبعه، والجدير بالذكر أن حادي العيس هو الشخص الذي يستطيع التواصل مع الجمل من خلال الأغاني التي تسلّيه وتثير إعجابه. فكلما كانت نبرة الصوت أجمل، كلما أحبه الجمل أكثر – كما أنّك لا تحتاج إلى أدوات موسيقية! فمن خلال الأغاني، يستطيع الجمل أن يستمتع بينما يجلب الماء لك من البئر. يستمتع بالأكل والشرب والأنشطة الأخرى. تمامًا كما نجد متعة في الأشياء، يجد الجمل متعة في ألحاننا وأصواتنا"

وفي نظرة على الشعر الفارسي خلال العصور الوسطى، شُبّه العُشاق بالجمال التي تتحمل الأعباء الثقيلة وتستجيب بلهفة لصوت سيدها، مما يعكس قوة التحمل والوفاء، أما في الأدب والشعر العربي، فقد خُلّدت صفات الجمل ومجّدت في العديد من القصائد، حيث كان الشعراء يبدأون بتمجيد شجاعة الجمل وبسالة راكبيه، ليصبح الجمل رمزًا للصمود والعزيمة في وجه التحديات.

 

وعلى الصعيد ذاته، يتناول الوثائقي "حادي العيس"، الذي أنتجه إثراء، بعمق العلاقة الفريدة بين "راكب الهجن" أو "الهجّان" وهو الشخص المسؤول عن سياقة الجمل، مسلطًا الضوء على الروابط المتينة التي تجمعهما معًا في رحلة الحياة.

 

يأخذكم إثراء في رحلة بصرية وثقافية عبر الزمن في معرض "الجمل عبر العصور"، الذي يسلط الضوء على تطور تصوير الجمل في الفنون البصرية، ويكشف عن مكانته الفريدة في الذاكرة الجماعية. يُقام المعرض في القاعة رقم 2، من 12 أغسطس حتى 30 نوفمبر 2024، ضمن فعاليات احتفالات السعودية بعام الإبل.

انضموا إلينا في إثراء لاستكشاف هذه العلاقة الاستثنائية وتقدير الجمل بوصفه رمزًا ثقافيًا وفنيًا خالدًا.

 

 

أخبار ذات صلة

For better web experience, please use the website in portrait mode