طرق الحج القديمة وأسطورة زبيدة
"وخرجنا بعد طواف الوداع إلى بطن مَرّ، في جمع من العراقيين والخراسانيين والفارسيين والأعاجم، لا يحصى عددهم تموج بهم الأرض موجًا، ويسيرون سير السحاب المتراكم. وفي هذا الركب نواضح كثيرة لأبناء السبيل يستقون منها الماء، وجمال لرفع الراد للصدقة ورفع الأدوية والأشربة والسكر لمن يصيبه مرض، وإذا نزل الركب طُبخ الطعام في قدور نحاس عظيمة، وأُطعم منها أبناء السبيل ومن لا زاد معه، وفي الركب جملة من الجمال يُحمل عليها من لا قدرة له على المشي". من أسفار ابن بطوطة (1325-1354م).
وكانت هذه الرحلة لأداء أحد أركان الإسلام - الحج – وهي رحلة عظيمة يعترضها العديد من الطرق غير المعبدة، والحرارة العالية جدًا، إلى جانب مواجهة قطاع طرق ومخاطر غير متوقعة من الأمراض، إذ أدى الملايين من المؤمنين عبر هذا الطريق شعيرة الحج، ولا يزال العديد من الحجاج يسلكون هذه الرحلة الروحية والعاطفية العظيمة بما فيها من إرهاق وصفاء، وسعادة وفرح، وشوق وترقب، حيث لا توجد عوائق تعيق إصرار المؤمنين لأداء فريضة الحج، فقد استغرق الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة في القرن الرابع عشر أكثر من 18 شهرًا صعبًا للوصول إلى مكة؛ لأداء فريضة الحج بعد مغادرة مسقط رأسة طنجة وهو في سن 21.
وكان الحجاج في الماضي يصلون إلى مكة المكرمة سيرًا على الأقدام، يعبرون الصحاري بقوافل الجمال وعلى ظهور الحمير، وحتى القرن التاسع عشر، كان هناك ثلاثة طرق رئيسة (قوافل) إلى مكة المكرمة، والتي كانت من أولى الطرق العابرة للقارات والمتقاطعة ومتعددة الثقافات، فتنطلق القافلة المصرية التي تستغرق من 35 إلى 40 يومًا من القاهرة، وتعبر شبه جزيرة سينا، ثم تسلك السهل الساحلي لغرب شبه الجزيرة العربية وصولًا إلى مكة، أما القافلة الكبرى تجتمع بمدينة دمشق في سوريا وتتجه جنوبًا عبر المدينة المنورة لتصل إلى مكة خلال 30 يومًا، وبعد فتح العثمانيين القسطنطينية عام 1453م، أصبحت هذه القافلة تنطلق من مدينة إسطنبول، والتي تجمع الحجاج من جميع أنحاء آسيا الصغرى على طول الطريق، ثم تُكمل رحلتها إلى مكة مرورًا بدمشق، وتنطلق القافلة الرئيسة الثالثة من مدينة بغداد في العراق مرورًا بشبه الجزيرة العربية حتى تصل وجهتها.
صمم بواسطة سماح الحمدان
وقد بدأت أفواج الحجيج مع وسائل النقل الحديثة بالوصول على متن حافلات وسفن من مناطق بعيدة في العالم الإسلامي، ثم تعبدت الطرق الآمنة للسيارات والطائرات لأداء مناسك الحج لمرة واحدة لمن استطاع إليه سبيلا.
وعلى مرّ التاريخ، قدمت العديد من الشخصيات المساعدة لتسهيل رحلة الحج من خلال الأعمال الخيرية، والتي تشمل بناء أفلاج (قنوات مائية)، وأماكن خاصة لإقامة الحجاج، وإحدى هذه الشخصيات الأسطورية النبيلة التي عُرف عنها اهتمامها بالأدب والشعر، هي زبيدة بنت جعفر بن أبي المنصور (766-831)، حيث جدها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (الخليفة العباسي الثاني)، وزوجها الخليفة هارون الرشيد (الخليفة العباسي الخامس)، حيث يعود سبب تسمية "زبيدة" بسبب مداعبة جدها المنصور في طفولتها بـ"زبيدة أنت زبيدة"، فعُرفت بذلك.
وتقول الأساطير، أنه خلال رحلة زبيدة للحج من مدينة الكوفة بالعراق إلى مكة المكرمة، شاهدت مشقة الحجاج على طول الطريق الصعب، وقررت تخفيف هذه المشقة والتكاليف التي يتحملها الحجاج من خلال بناء أنظمة مساندة على امتداد الطريق، حيث بدأت زبيدة بناء المشروع التاريخي الذي شمل على مراكز خدمة شملت آبار مياه متعددة على طول طريق الحج من بغداد إلى مكة، ولذلك أُنشئ درب زبيدة ليتضمن آبار ومسابح وسدود واستراحات، إضافةً إلى أنها علمت على تحديد الطرق والأرصفة ليشمل مشروعها 27 محطة رئيسة و27 منزلًا "أي محطة ثانوية"، من أبرزها: الشيحيات والجميمة وفيد والربذة وذات عرق وخرابة.
ويعود أصل طريق الحج إلى عصر ما قبل الإسلام، ولكن ازدادت أهميته بشكل ملحوظ مع بزوغ فجر الإسلام، إذ تفيد المصادر التاريخية أنه بحلول نهاية عام (12هـ \ أوائل 634م) عاد القائد المسلم المعروف خالد بن الوليد من العراق لأداء فريضة الحج، حيث وصل لذات عرق بمدة لم تتجازو أسبوعين، مستخدمًا هذا الطريق الذي كان أقصر مسافة آنذاك.
وازدهر الطريق الذي كان يُعرف "بدرب الحيرة" أثناء فترة الخلافة المبكرة، حتى وصل ذروة ازدهاره خلال الخلافة العباسية (750-1258)، خصوصًا بعد قيام الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفاح عام 751م، بتشييد الدرب وتأسيسه، كما أمر بإقامة معالم وأعلام ومنارات على طول الدرب من الكوفة حتى مكة المكرمة لتيسير سفر الحجاج والتجار.
ولكن كما أظهر التاريخ، فإن الجهود الكبيرة التي بذلتها زبيدة للقيام بمشروع التطوير الضخم لتسهيل الرحلة الشاقة إلى مكة المكرمة، حتى أنه تم إعادة تسميته من درب الحيرة إلى درب زبيدة حتى اليوم.
وقد سجلت المملكة العربية السعودية درب زبيدة؛ ليكون ضمن قائمة التراث العالمي بمنظمة "اليونسكو" في عام 2015م، وهو مُدرج في القائمة المؤقتة للدول الأطراف.
"ويملك الطريق قيمة عالمية استثنائية لأنه يجسد فعليًا الأهمية الثقافية للتبادل والحوار متعدد الأبعاد بين البلدان، وذلك من خلال جمعها للعديد من الحجاج المسلمين من مختلف الأعراق والأجناس والبقاع، ومن هنا تشكل التبادل الديني والثقافي بين الناس من مختلف بقاع الأرض، كما يبرز درب زبيدة تفاعل الحركة طوال الطريق من حيث المكان والوقت منذ عصور ماقبل الإسلام، وحتى نهاية الخلافة العباسية في القرن السابع الهجري \لثالث عشر للميلاد". تقرير وكالة الأنباء السعودية.
وسيحتفي مركز "إثراء" الذي يهتم بالثقافات العالمية والمحلية بدرب زبيدة وأهمية طرق الحج من خلال البرامج التي سيقدمها بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك، حيث أن هناك طرق اكتشاف داخلية تستمر في إثارة خوفنا ودهشتنا بجانب الطرق المادية الممتعة وغير الممتعة التي تأخذنا إليها حياتنا؛ لنحتضن ثقافتنا وننمو لفهم قصتنا والثقافات الأخرى وتعبيراتها الفنية.
بقلم ريم غزال