الثوب السعوديّ.. حكاية مستمرة
حول العالم، وبصرف النظر عن الموقع الجغرافيّ، والظروف المُناخيّة، يرتدي البشرُ الملابسَ المختلفة، يتّقون بها برد الشتاء، والشمس الحارقة، ويعبّرون من خلالها عن أنفسهم، ومكانتهم الاجتماعيّة، والمهنيّة، وأذواقهم، وشخصيّاتهم. ومع التفضيلات الشخصيّة للأفراد، تتشابك العوامل: الثقافيّة، والاقتصاديّة، والبيئيّة، لتفرض على الناس أزياءهم، وما يختارون لها من: ألوان، وخاماتٍ وتصاميم، حتى تمكنك من تمييز انتماءاتهم، ومواطنهم، بمجرد النظر إلى ما يلبسون.
وليس سكان المنطقة العربيّة استثناءً من هذا، إذ اختار العرب من الملابس ما يشبه بيئتهم، ويناسبها، وبرغم تشابه الظروف: الدينيّة، والاجتماعيّة، بين عموم العرب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أن أهالي الجزيرة العربيّة تميزوا بأزيائهم التقليديّة الخاصّة، والتي فرضتها طبيعة الصحراء القاسية. وعلى بساطة ثيابهم، كانت ولا تزال الأنسب للطقس، والأكثر شيوعًا بين أهالي المنطقة، وتعدّت شهرتها حدود
المملكة العربيّة السعوديّة والخليج العربيّ، لتصبح من أهم الأزياء التقليديّة المعروفة عالميًا.
كيف تطوّر الزيّ إلى شكله المعروف حاليًّا؟
قطعة من القماش تستر البدن، وتمنع لهيب الشمس، والعواصف الرمليّة، وتمنح بعض الدفء شتاءً، هذا ما يريده الإنسان القابع هناك من لباسه. وبالنظر إلى صعوبة الحياة في الجزيرة العربيّة قديمًا، وما كان يتكبده الإنسان للبقاء على قيد الحياة، تصبح الثياب البسيطة، وغطاء الرأس، أو العمامة، والعقال، تكيفًا ذكيًّا مع البيئة والطبيعة.
يعود أصل الزِّيّ العربيّ التقليديّ إلى ما قبل ظهور الإسلام، فيقال ـ مثلًا ـ إن الشماغ ظهر أولَ ما ظهر، على رؤوس الكهنة في سومر القديمة، وبحسب المصادر، تشير قواميس اللغة المسماريّة إلى أن أصل الكلمة في اللغة السومريّة (آش ماخ)، وتعني "غطاء رأس عظيم". ويُقال أيضًا إن النقوش الحمراء، تُحاكي سنابل القمح التي ترمز للخير والعطاء، أو زعانف السمك، وهذه الأخيرة لها خصوصيّة في أساطير العراق القديمة، وحين تزيين النسيج يُراد بها "طرد الأرواح والأفكار الشريرة" من رؤوس مرتديها.
أما الغترة البيضاء، فلعلها العمامة بعد إسدالها لتغطي أكبر قدر من الرأس والوجه، فتقي العربيّ حرارة الشمس والعواصف. ولتثبيتها على الرؤوس، استُخدم العقال، والذي كان حبلًا مصنوعًا من صوف الماعز، يحتاجه العربيّ كثير الترحال لربط نوقه ودوابه، كما يقول الباحث التاريخيّ حيدر الناصر. والجذر اللُّغويّ للكلمة العربية عقال "عقل"، وتعني تقييد الشيء أو حبسه، لمنعه من التفلّت والضياع، كما جاء في الحديث عن النبيّ الكريم: "بل اعقلها وتوكل" يريد الناقة، وكذا يكون العقل للمرء، نقيض الجنون والضياع.
الزّيّ الوطنيّ السعوديّ
ومع تعاقب السنين، وبعد توحيد الجزيرة العربيّة على يد المغفور له الملك عبد العزيز، صار الثوب مع الغترة أو الشماغ، معبّرًا عن الهويّة الوطنيّة السعوديّة. اختيرت الثياب بيضاء، كي تعكس أشعة الشمس، وتصميمها يؤمن دوران الهواء حول الجسم ما يخفف من حرارة الجوّ، ولهذا الغرض بالذات، فُضّلت الخامات القطنيّة لخياطة الثياب. فكان الثوب الأبيض المعروف، والذي يلبس يوميًّا في أنحاء المملكة.
وباختلاف المناطق والفصول والمناسبات، تطرأ تغييرات طفيفة على الزّيّ وملحقاته، إذ يميل السعوديّون إلى اختيار الثياب بألوان: كالبُنيّ والكحلي شتاءً، فضلًا عن خامات الأقمشة الثقيلة أو الصوفيّة. كما يلبس البعض "الجبة" والسديري، وهي رداء مصنوع من الجوخ للتدفئة. وفي الجنوب يضاف الخنجر ضمن حزام الوسط، للتعبير عن الرجولة والشجاعة. ويلبس الأعيان والمسؤولون البشت أو المشلح، في المناسبات الرسميّة، بألوان فاتحة نهارًا وداكنة ليلًا.
وكما هي الحال دائمًا في صناعة الأزياء، ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات لـ "عصرنة" الزّي الوطنيّ السعوديّ، فأدخل المصمِّمون تفاصيل جديدة للثياب التقليديّة، كالتطريز، أو توظيف الخط العربيّ في الزخرفة، واللعب بالأقمشة والقصّات، وهو ما لاقى قبولًا وتشجيعًا لدى فئات من الشباب، في حين رفضها
آخرون، بحجّة حماية الهُويّة السعوديّة، والحفاظ على اللباس الوطنيّ التقليديّ.
ومهما يكن من أمر، تبقى ثيابنا التقليديّة، جامعةً لنا، معبّرةً عنا، وتربطنا بخيوط من الذكريات والحب: للوطن، والأهل، والثقافة السعوديّة الأصيلة، روابط تلازمنا ما حيينا، ولا يمكن بحال الاستغناء عنها.