في زنازين السجن وغرفه المظلمة، وحياته الرتيبة المملة القاتلة، والتي لا أفق لها، توجد شمس صغيرة تضيء النفوس الإيجابية من الداخل، لترى صورة المعنى باسمةً ومحلقةً لا تحدها أسوار السجن ولا تشوِّهها أسواط السجان.. المعنى كترياقٍ لليأس، تلك هي المحاججة التي يقترحها فيكتور فرانكل في كتابه الملهم.
"الإنسان يبحث عن المعنى" رواية واقعية كتبها طبيب الأعصاب وعالم النفس النمساوي "فيكتور فرانكل"، حرر فصولها من رَحِم معاناته الشخصية في المعتقلات النازية، وخلص فيها إلى اكتشاف نظرية "العلاج بالمعنى"، التي طورها لاحقا، ودافع عنها، وذاع صيته بعد أن أعطت نتائج مذهلة، نال على إثرها تسعا وعشرين شهادة دكتوراه فخرية من الجامعات العريقة حول العالم.
رأى فرانكل بوضوح خيوط المعنى تتولد كلما اشتد الضغط و تفاقم اليأس، رأى تلك الخيوط تتشابك وتنسج معنى ذاتيا قادرا على الصمود في وجه الألم، ليس الصمود فقط وإنما إيصال الروح إلى مستوى معين من الطمأنينة والسكينة والإيمان أن كل هذا سيصبح قريبا مجرد ذكرى، ويحل محله انتصارٌ عظيم على اللحظة الحاضرة بكل مراراتها.. هذه الحالة النفسية المتوازنة هي أحد تمثلات العلاج النفسي الوجودي، الذي امتاحه الرجل من تجربته الذاتية، وعممه كثورةٍ في علم النفس لمداواة النفوس المعطوبة؛ وسرد كل شيء في روايته تلك كي يقودنا معه كقراء في دروب النفس المتقاطعة أبدا مع دروب المعنى الخفية إلا على الذين قرروا ركوبها بكامل وعيهم، كي تقودهم إلى منابع ارتواء الروح التي أنهكها الألم ظمأً.
وجد فرانكل نفسه بين عشية وضحاها رقماً في معسكرات قسرية تساق إليها الناس بأجساد منهكة، ورؤوس مغطاة بخِرقٍ بالية، لا تستر إلا جزءاً يسيراً من أجسادهم، يعيشون على رغيف خبز يابس؛ وجد نفسه مجردًا من اسمه، وتاريخه، ومن هويته، ولا يملك شيئا غير جسده الذي واصل الصمود، وعقله الذي استمر في الوميض، وشغفه بعلم النفس الذي ساعده في أن يحيل أزمة السجن إلى تجربة مليئة بالمعاني والعبر.
قضى فرانكل مدة اعتقاله وهو مصر على التمعن في الحياة والتمسك بها، ومحاورتها، والتعرف عليها في ثوبها الجديد، ثوبها الضيق، ثوبها القاسي..
كان مختلفا في التعاطي مع الوضع الجديد، ففي الوقت الذي استسلم فيه الجميع للألم، وانساقوا وراء اليأس، استسلم هو لرؤيته الذاتية، وانساق وراء المعنى، يقول: "وبعد فترة وجيزة في المعسكر بدا لي أنني سأموت قريباً، وكان السؤال الشاغل للزملاء: هل سنبقى أحياء بعد الموت، حتى يكون لهذه المعاناة معنى؟" أما أنا فالسؤال الذي شغلني هو: هل لكل هذه المعاناة من حولنا معنى؟ وللموت من حولنا معنى؟ إذا لم يكن الأمر كذلك فليس لبقائنا أي معنى." ويضيف فرانكل: "هذا المعنى المُضاف إلى الحياة هو الذي يجعل الإنسان قادراً على مواجهة آلامه التي لا يستطيع لدفعها سبيلاً"
عندما تكون المعناة مصيرا محتوما؛ فإن أحد الطرق لجعلها أقل وقعا، هو تقبلنا لها، واعتبار الأمر بمثابة مهمة قاسية لا مناص من تأديتها، ولا أحد يمكنه إنهاء تلك المهمة بالنيابة عنا؛ هنا تكمن فرصة نجاتنا وأفق استخلاصنا للمعنى، في الطريقة التي سنتحمل بها الأعباء والمتاعب المؤقتة.
البحث عن المعنى هو سفرٌ في النفس البشرية، وزرعٌ لبذور الأمل مهما اتسعت صحراء الألم، حتى لا نخرج من سجن ضيق لنجد أنفسنا في سجن فسيح، ولا فرق بين السجنين. إن الأشياء التي تنتظرنا خارج المحنة التي نخوضها الآن تستحق القتال بسراسة حتى لا نخسرها؛ حين نفشل في الإحاطة بالمعنى والتدثر به ونحن نخوض تجربة مؤلمة، حينها نضع أرواحنا في خطر بالغ، ليس خطر تضييع المعنى الذي يراودنا فقط، بل خطر خسارة أنفسنا إلى الأبد.
جدير بنا إذن أن نتذكر دائماً أننا عندما ندخل مأزقا لا مفر منه، في الحقيقة هناك مفر.. يمكننا أن نفرَّ إلى المعنى الكامن في المأزق نفسه.